«يا معشر الأنصار» قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: «قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟» قالوا: قد كان ذاك، قال: «كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم»
معاني المفردات
وَفَدْتُ : قَدِمْتُ. رَحْله : مكان إقامته. العَشِيّ : آخر النهار. مَعْشَر : جماعة. المُجَنِّبَتَيْن : هما ميمنة الجيش وميسرته ويكون القلب بينهما. الحُسَّر : جمع حاسر: مَن لا درع عليه. لَبَّيْك : لزومًا لطاعتك واتجاهًا إليك. اهْتِفْ لي بالأنصار : ادعهم لي. وَبَّشَت : جمَّعت. أوباشًا : جموعًا من قبائل مختلفة. تُوافوني : تلاقوني. أُبِيحت خضراء قريش : أُهلكوا واستؤصِلوا. عشيرته : قومه. الضِّنّ : البخل. سِيَة القوس : المنعطف من طرفي القوس. زهق : ذهب واضمحل.
شرح الحديث
يحكي أبو هريرة رضي الله عنه أن الناس قدموا على معاوية بن أبي سفيان بالشام في رمضان، فكان الناس يصنعون لبعضهم طعامًا، فيأكلون جميعًا، وكان أبو هريرة رضي الله عنه كثيرا ما يصنع طعامًا ويدعو الناس إليه، فنوى عبد الله بن رباح أن يصنع طعامًا ويدعو إليه الناس، ثم لقي أبا هريرة فقال له: أدعوكم للطعام عندي الليلة، فقال له أبو هريرة: لقد سبقتني، فلما اجتمعوا قال أبو هريرة للحاضرين: ألَا أخبركم بحديث من حديثِكم يا جماعة الأنصار، فذكر لهم قصة فتح مكة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى مكة وجعل الزبير بن العوام قائدًا على جانب من الجيش، وجعل خالد بن الوليد قائدًا على الجانب الآخر، وجعل أبا عبيدة بن الجراح قائدًا على الجنود الذين لا يلبسون الدروع، فجعلوا طريقهم في بطن الوادي إلى مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة في وسط الجيش، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أبا هريرة، فأمره أن يدعوا له الأنصار أن يأتوه، ولا يأتيه إلا أنصاري، فجاء الأنصار فالتفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم ، وجمعت قريش جموعًا من قبائل مختلفة وجهزتهم للقتال، وجعلتهم في مقدمة الجيش، وقالوا: نجعلهم في المقدمة، فإن كان لهم النصر كنا معهم، وإن انهزموا أعطينا محمدًا ما يريد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقتلوا الجموع التي جمعتها قريش، وأن يلاقوه على جبل الصفا بمكة، فانطلق الصحابة يقتلون جموع قريش حتى أبادوهم، ولم يستطع أحد منهم أن يدفع عن نفسه القتل، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله إن قريشًا قد استؤصلت بالقتل وأُفنيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فقالت الأنصار بعضهم لبعض: «أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته» والمعنى: أنهم رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وأنه كف القتل عنهم فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائما ويرحل عنهم ويهجر المدينة، فشق ذلك عليهم، وأوحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم فأعلمهم بذلك، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : قلتم كذا وكذا قالوا: نعم قد قلنا هذا. وهذه معجزة من معجزات النبوة، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى ذلك على الصحابة، فكانوا لا يرفعون أعينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي الوحي، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوه، أعلمهم أنه رسول الله حقا فيأتيه الوحي ويخبر بالمغيبات كهذه القضية وشبهها، فعليهم أن يثقوا بما يقول لهم ويخبرهم به في جميع الأحوال؛ فإنه عبد الله ورسوله، ثم طمأنهم أنه هاجر إلى الله وإلى ديارهم لسكناها فلا يتركها ولا يرجع عن هجرته الواقعة لله تعالى، بل هو صلى الله عليه وسلم ملازم لهم المحيا والممات، فلا يحيا إلا عندهم ولا يموت إلا عندهم، وهذا أيضا من المعجزات. فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا وقالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصًا عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا؛ لنستفيد منك ونتبرك بك وتهدينا الصراط المستقيم كما قال الله تعالى : {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ورسوله يصدقانهم ويعذرانهم. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» أقبل الناس إلى دار أبي سفيان، وأغلق الناسُ أبوابهم، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى إلى الحَجَر فاستلمه ثم طاف بالكعبة، ثم أتى على صنم إلى جنب الكعبة كانوا يعبدونه، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس، فجعل يطعنه في عينه، ويقول: {جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ} [الإسراء: 81]، فلمَّا فرغ من طوافه أتى جبل الصَّفَا، فصعد عليه حتى نظر إلى الكعبة، ورفع يديه فجعل يحمدُ اللهَ ويدعو بما شاء أن يدعو.
التوثيق
- الدرجة: صحيح
- المصدر: رواه مسلم
من فوائد الحديث
حصول معجزة ظاهرة للنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث جاءه الوحي وأعلمه بمقالة الأنصار. ما كان عليه الصحابة والتابعون من الكرم والمسابقة فيه، وبر بعضهم ببعض. استحباب اشتراك المسافرين في الأكل واستعمالهم مكارم الأخلاق. أن أحسن ما يحدث به عند الاجتماع فى الولائم وانتظار الطعام أمثال هذا مما جرى من الحروب وغيرها؛ لنشاط النفوس لسماعه، وقطع مدة الانتظار بذلك. السنة لمن دخل مكة أن يكون أول ابتدائه استلام الحجر والطواف بالبيت. أن العسكر يكون له مجنبتان، يجعل على كل من المجنبتين زعيم معروف بالشجاعة والبأس، لأن الزبير وخالد بن الوليد، كانا مشهورين بذلك. أن زعيم الجيش لا ينكشف لعدو بمفرده، ولكن يكون في الكتيبة والجماعة منقطعًا في المعسكر، كما ذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في كتيبة. أدب الصحابة، وأنهم كانوا لا يرفع أحد منهم طرفه إليه وقت الوحي احترامًا. استحباب حمد الله -تعالى- والثناء عليه بعد النعم لكونه -صلى الله عليه وسلم- صعد إلى الصفا عند تمام الفتح حامدًا لله -عز وجل-. استحباب قراءة الآية المذكورة عند إزالة المنكر.